توحيد النظام المالي للإيرادات العامة: نموذج عدن نحو حوكمة مالية ورقابة رقمية شاملة

وفي إطار الجهود الرامية إلى تعزيز الكفاءة والشفافية في إدارة الموارد العامة، طرح الأكاديمي والخبير المالي الدكتور/علي ناصر سليمان الزامكي أستاذ الإدارة المالية المشارك في كلية العلوم الإدارية بجامعة عدن، مقترحًا متكاملًا لتوحيد النظام المالي للإيرادات العامة في اليمن، من خلال مشروع وطني تجريبي بعنوان “النظام المالي الموحد لتوريد الإيرادات العامة – نموذج عدن”، يهدف إلى بناء منظومة مالية رقمية موحدة تحقق التحول المالي والإداري المنشود في الدولة.
*الإطار المفاهيمي للنظام المالي الموحد*
يقصد بالنظام المالي الموحد لتوريد الإيرادات العامة، المنظومة الإلكترونية المتكاملة التي تنظم عملية التحصيل والتوريد والمطابقة بين الجهات الإيرادية والبنوك والسلطات المالية، عبر منصة رقمية مركزية تربط بين الجهات الحكومية الإيرادية، والبنك المركزي وفروعه، ووزارة المالية والخزانة العامة، والبنوك التجارية والإسلامية المعتمدة، إضافة إلى الأجهزة الرقابية والمحاسبية كالجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة وهيئة مكافحة الفساد، ويهدف هذا النظام إلى تحقيق الشفافية والعدالة والانسيابية في تدفق الموارد نحو الخزينة العامة، وضمان مطابقتها إلكترونياً، وتوفير بيانات لحظية دقيقة عن الموقف المالي والإيرادي للدولة.
*مشكلات النظام الحالي لتوريد الإيرادات*
تظهر الممارسات الحالية العديد من أوجه القصور في إدارة الإيرادات العامة، أهمها تعدد الحسابات البنكية للجهات الحكومية وعدم خضوعها للرقابة المركزية، وتجزؤ إجراءات التحصيل والتوريد بين الجهات المختلفة بما يفتح ثغرات للفساد الإداري والمالي، إلى جانب ضعف البنية الرقمية وانعدام التكامل بين أنظمة وزارة المالية والبنك المركزي، وغياب التقارير الموحدة حول الوضع الإيرادي، واستمرار التعامل الورقي والنقدي في التحصيل، ما يزيد من مخاطر التسرب المالي ويضعف قدرة الدولة على إدارة مواردها وموازنتها العامة بفاعلية.
*أسس بناء النظام المالي المقترح*
يبنى النظام المالي الموحد على مجموعة من المبادئ الجوهرية تشمل المركزية المعلوماتية عبر منصة رقمية موحدة، والشفافية المالية بتتبع كل ريال من لحظة التحصيل حتى التوريد النهائي، والتكامل المؤسسي بين البنك المركزي ووزارة المالية، والرقابة الرقمية المستمرة، وتطبيق معايير الأمان السيبراني، إلى جانب التوافق القانوني مع التشريعات المالية والمصرفية النافذة.
*النظام المالي المقترح (نموذج عدن)*
في ظل تعدد قنوات التحصيل المالي بين الضرائب والجمارك والسلطات المحلية، وغياب نظام موحد للتوريد، يقترح إنشاء نظام مالي إلكتروني متكامل لتوريد الإيرادات العامة كنموذج تجريبي في العاصمة الاقتصادية المؤقتة عدن، نظرًا لتجربتها الناجحة في ضبط وتوريد الموارد المحلية عبر إدارة إلكترونية فعالة، ويهدف هذا النموذج إلى توحيد وأتمتة ومركزة جميع موارد الدولة المالية – الضرائب، الرسوم الجمركية، الموارد المركزية والمحلية – في الخزينة العامة بالبنك المركزي اليمني، ليتم تعميمه تدريجيًا على بقية المحافظات بعد نجاح المرحلة التجريبية، ويقوم النظام على فلسفة “تحصيل موحد، توريد فوري، رقابة إلكترونية، شفافية مالية”، أي أن جميع الإيرادات تحصل عبر منصة مالية إلكترونية وتورد مباشرة إلى حساب الخزينة العامة في البنك المركزي مع إمكانية تتبع كل معاملة لحظيًا.
*مكونات النظام المالي المقترح*
*يتألف النظام من خمسة مكونات أساسية*
1. المنصة الوطنية الموحدة للإيرادات العامة (NRP)، منصة إلكترونية حكومية تشرف عليها وزارة المالية وتربط مصالح الضرائب والجمارك ومكاتب المالية والسلطات المحلية والموانئ والبنك المركزي، تتيح تسجيل المكلفين إلكترونيًا، وتلقي الإقرارات، وإصدار أوامر السداد، والربط مع شبكات الدفع الإلكتروني.
2. الرقم المالي الموحد الذي يمنح لكل مكلف (فرد أو منشأة أو جهة حكومية)، ويربط جميع تعاملاته الضريبية والجمركية والمحلية في قاعدة بيانات وطنية واحدة، مما يضمن تتبع السداد ومنع الازدواج المالي وتوفير سجل مالي موثوق.
3. نظام الربط المالي الإلكتروني (e-Linkage) الذي يربط المنافذ الجمركية ومكاتب الضرائب والبنك المركزي والجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة في منظومة واحدة تسجل كل عملية تحصيل إلكترونياً وتوردها للخزينة العامة خلال ثوانٍ.
4. نظام التوريد البنكي الفوري (Instant Treasury Deposit System) الذي يمكن من توريد أي إيراد مباشرة إلى البنك المركزي عبر البنوك التجارية أو المحافظ الإلكترونية أو البريد المالي، ويصدر إيصالًا إلكترونيًا مختومًا من البنك المركزي.
5. لوحة المتابعة المالية (Revenue Dashboard) وهي واجهة رقمية تحليلية تمكن الجهات العليا من متابعة حركة الإيرادات لحظة بلحظة، عبر مؤشرات تشمل إجمالي الإيرادات اليومية والأسبوعية، ونسب التوريد، والمقارنات بين الإيرادات المقدرة والمحصّلة.
*مراحل التشغيل وآليات التوريد*
يمر النظام بثلاث مراحل رئيسية: التسجيل والإقرار الإلكتروني، ثم الدفع والتحصيل عبر البنوك أو نقاط الدفع المعتمدة، ثم التوريد الفوري إلى البنك المركزي مع إصدار التقارير الإلكترونية للجهات المعنية.
كما ينظم النظام آلية توريد الموارد المركزية (كالضرائب والجمارك) مباشرة إلى حساب الخزينة العامة، بينما يتم تقسيم الموارد المشتركة آليًا وفق نسب محددة، وتورد الإيرادات المحلية إلكترونيًا لحسابات المحافظات مع تقارير دورية لوزارة المالية.
*البنية التقنية والإدارية للنظام*
يشرف على تنفيذ النظام وزارة المالية بالتعاون مع البنك المركزي والجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة وهيئة مكافحة الفساد، وبدعم فني من شركة وطنية متخصصة في التحول الرقمي المالي، ويقترح أن يمول المشروع عبر منحة أو دعم دولي مخصص لمشروعات الحوكمة المالية.
أما مزايا التطبيق التجريبي في عدن فتتمثل في قرب المؤسسات السيادية (البنك المركزي ووزارة المالية ومصلحة الضرائب)، ووجود ميناء دولي ومنافذ متعددة، واستقرار البنية التحتية المصرفية، مما يجعلها بيئة مناسبة لتطبيق النظام كنموذج وطني قابل للتعميم.
*الأثر المالي والمؤسسي المتوقع*
من المتوقع أن يؤدي تطبيق النظام إلى تقليص الفاقد المالي بأكثر من 40% خلال السنة الأولى، وتحسين إدارة السيولة العامة، وتمكين صانع القرار من الاطلاع الفوري على الموقف المالي للدولة، ورفع كفاءة الأداء المؤسسي، وتقليص التعامل النقدي المباشر، وتعزيز الثقة الداخلية والدولية بالنظام المالي اليمني.
*المتطلبات التشريعية والتنظيمية*
يتطلب تنفيذ النظام إصدار قرار حكومي بإنشاء المنصة الوطنية للإيرادات العامة وتعديل اللائحة التنفيذية للقانون المالي لتشمل التحصيل الإلكتروني، وإعادة هيكلة الوحدات المالية في الوزارات والمؤسسات العامة لتتوافق مع النظام الجديد، وتدريب الكوادر المالية والمصرفية، وتفعيل الرقابة الرقمية المباشرة عبر ربط الأجهزة الرقابية بالمنصة.
*التوصيات التقنية والتنفيذية*
يقترح المشروع جملة من الإجراءات التنفيذية تبدأ بتشكيل لجنة وطنية للتحول المالي الرقمي برئاسة وزارة المالية وعضوية البنك المركزي ووزارات الاتصالات والتخطيط وممثلين عن القطاع المصرفي والخاص، وتكليفها بوضع الاستراتيجية الوطنية للتحول المالي الرقمي، ومتابعة التنفيذ وإصدار التقارير الدورية.
كما يدعو إلى إعداد تشريع رسمي لاعتماد الدفع الإلكتروني كوسيلة إلزامية للتحصيل، وبناء مركز بيانات وطني موحد في عدن مع مراكز احتياطية في محافظات أخرى، والاستعانة بخبرات متخصصة في البنية التحتية السحابية والأمن السيبراني.
ويقترح كذلك تنفيذ مشروع تجريبي في عدن يبدأ بثلاث إلى خمس مؤسسات حكومية (كالضرائب والجمارك والكهرباء) لتجربة النظام فعليًا خلال فترة تتراوح بين ستة إلى تسعة أشهر، يعقبها تقييم شامل لتوسيع التطبيق في المحافظات الأخرى.
كما يوصي بإعداد خطة وطنية لتدريب وتأهيل الكوادر المالية والتقنية بالتعاون مع الجامعات ومراكز التدريب المتخصصة، واعتماد شهادات مهنية وطنية مثل “خبير في التحول المالي الرقمي” و“مدير نظم دفع إلكتروني”، وإطلاق منصة تعليم إلكتروني تقدم برامج مستمرة في مجالات الأمان السيبراني وتحليل البيانات المالية.
*الخاتمة والتوصيات العامة*
يؤكد الدكتور/علي ناصر الزامكي، أن إنشاء نظام مالي وطني موحد لتحصيل وتوريد الإيرادات العامة يمثل نقطة تحول استراتيجية في إدارة الموارد العامة للدولة اليمنية، وأن نموذج عدن المقترح يشكل خطوة عملية نحو الحوكمة المالية الكاملة وتثبيت دور البنك المركزي كمركز لتوريد كافة الموارد، بما في ذلك الضرائب والجمارك والإيرادات المحلية، ويرى أن تطبيق هذا النموذج سيحدث نقلة نوعية في كفاءة التحصيل والإدارة المالية، وسيسهم في بناء منظومة مالية شفافة ومستدامة.
واختتم بتوصياته الموجهة إلى الحكومة اليمنية بضرورة تبني مشروع وطني للتحول المالي الرقمي، وتوحيد الحسابات الحكومية في البنك المركزي بعدن، واعتماد النظام المقترح كنموذج تجريبي في العاصمة المؤقتة ثم تعميمه تدريجيًا على بقية المحافظات، وتطوير تشريعات داعمة للتحصيل والإدارة الإلكترونية للإيرادات العامة.
* أستاذ الإدارة المالية المشارك – جامعة عدن
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة عدن تايم , ولا يعبر عن وجهة نظر حضرموت نت وانما تم نقله بمحتواه كما هو من عدن تايم ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة على المصدر السابق ذكرة.








