السجن في زمن المليشيا: حين تُصبح الذاكرة طوق نجاة

هناك، في عتمة تلك الزنازين، يتحول السجن من مكان للعقوبة إلى فضاء للترويع والانتقام، ومسرح للموت البطيء. وجه السجن الذي أتحدث عنه لا تُجسّده الكلمات، ولا يمكن للحديث أن يدينه بما يكفي، لأنه أعمق من أن يُختصر أو يُفهم دون معايشة.
السجن كشرطٍ للعدم
إنها تجربة لا تُفهم إلا بالخوض فيها. وكلما طالت، كشفت عن وجوه وأصوات دفنتها المعاناة. لكن، أي معرفة تستحق أن تخوض الجحيم من أجلها؟ وما عليك، حين تُلقى هناك، إلا أن تلملم بقايا قوتك لتصف أقل القليل من واقعٍ هائلٍ في قسوته.
سأتحدث عما تبقى في الذاكرة… عن ذاكرة السجن.
فالسجن، في جوهره، هو حالة نفي كليّ للإنسان. تُجبر فيه على تقطير حياةٍ افتراضية من حجر الذاكرة، وتُدفع – رغمًا عنك – إلى نسج عالمٍ متخيّل في مكان خاوٍ صلب. تُحرَم من كل أشكال الحياة، فيصبح كل ما يُبقيك قائمًا هو ما تحمله من ذكريات.
أنت هناك، بكامل مشاعرك وتفاصيلك، في غيابٍ تام. لا حضور لك في الحاضر. لا هو حياةٌ تُعاش، ولا موتٌ يُريح. إنه المنصة التي تُصعَد إليها قسرًا، ليُلفّ حبل المشانق حول عنقك. وتجد نفسك معلّقًا، كأنك على وشك السقوط في هوة الموت، ممسكًا بالحياة فقط عبر رؤوس أصابعك التي تمنع جسدك من الانزلاق.
اختراع الحياة داخل المقصلة
في هذا التوتر المشدود حتى حده الأقصى – لا لساعات أو أيام، بل لسنوات – تجد نفسك مضطرًا لأن تخترع الحياة. تصبح الذاكرة سلاحك الوحيد في مواجهة جحيمٍ لا يُطاق. تتشبث بها كما يتشبث الغريق بقشة، وتعيد من خلالها بناء روحك المهشّمة كل يوم.
في السجن، نحن لا نعيش… نحن نخلق الحياة من العدم. نمنح ذاكرتنا القدرة على اختراع حياة كاملة، نخترع أشخاصًا نحبهم أو نكرههم، نخوض معهم معارك ننتصر فيها أو نُهزم. نخترع نساءً نشتاق إليهن، نبكي عليهن، ونسكن إليهن كما لو أننا نصلّي. وإذا ابتعدن عنّا، نحزن كما لو كنّ حقًا معنا. وقد نحاول الانتحار أيضًا.
من لا يُجيد فن اختراع الحياة في السجن، قد يُسحبه اليأس إلى الموت. فالسجن، هذا الحيز الذي يفصل بين الحياة والموت، يجعل من الذاكرة طوق نجاة. وحدهم من عرفوا قسوة الزنازين، كحال آلاف المعتقلين في سجون الحوثي، يدركون حقيقة هذه الذاكرة، وكم هم بحاجة إليها.
السنوات التي تتكرر بلا معنى، تجعل الذاكرة عطشى. تصبح صحراء شقّها الظمأ، وتحاول جاهدة أن تصون ما تبقّى من ماء الحياة فيها. ولأننا نخاف أن تموت الذاكرة فتموت أرواحنا معها، نظل نبحث عن ما يسقيها… ولو بقطرة.
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة صوت الشعب , ولا يعبر عن وجهة نظر حضرموت نت وانما تم نقله بمحتواه كما هو من صوت الشعب ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة على المصدر السابق ذكرة.