حسابات الأطراف اليمنية بعد الغارات الأمريكية على صنعاء


“جميع الأطراف اليمنية، سواء كانت سياسية أو عسكرية، تنطلق في مواقفها من حسابات خاصة وهواجس مشروعة بشأن ما قد تؤول إليه الأمور في حال تم القضاء على الحوثيين.”

لم تكن الحملة الجوية الأمريكية ضد الحوثيين في منتصف مارس الجاري مفاجئة، بعد دخول القرار التنفيذي للرئيس الأمريكي دونالد ترمب، حيز التنفيذ بإعادة تصنيف الحوثيين رسمياً كمنظمة إرهابية أجنبية (FTO)، وبعد إعلان الحوثيين استئناف هجماتهم على السفن الإسرائيلية في البحر الأحمر. وقد سبق الحملة الأمريكية سياق تصعيدي أمريكي للضغط على إيران بهدف إعادتها إلى طاولة المفاوضات بشأن برنامجها النووي، ما يمثّل أنّ هذه التحركات في اليمن جاءت كتفعيل لتلك التهديدات عبر ضرب أحد محركات طهران العسكرية جنوب البحر الأحمر، خاصة وأنّ الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، صرّح قبل أسبوعين، بأنّ “أياماً مثيرة للاهتمام قادمة مع إيران”، في رسالة وجهها إلى المرشد الأعلى الإيراني، وكان يلوّح بأن “شيئاً ما سيحدث قريباً جداً”. 

من الواضح أنّ واشنطن تسعى إلى تقويض قدرة إيران وجماعاتها المسلحة في المنطقة، لدفع طهران تقديم تنازلات في المفاوضات النووية أو في دعمها لجماعاتها. خاصة بعد تراجع موقف طهران إثر سقوط أهم حلفائها في المنطقة، حزب الله في لبنان ونظام الأسد في سوريا. وهو ما شجع واشنطن على اتباع سياسة “الضغط القصوى” التي أعاد ترمب تفعيلها ضد إيران. ويأتي تصريح ترمب على منصة (ترو Truth) الذي ينظر “إلى كل رصاصة يطلقها الحوثيون على أنها رصاصة أطلقت من أسلحة وقيادة إيران”، كجزء لا يتجزأ من هذه الاستراتيجية. 

من جانب الحوثيين، يبدو أن تقديراتهم كانت خاطئة هذه المرة، عندما تبنوا ذات التكتيك التصعيدي في البحر الأحمر، آملا في أن يفتح لهم الرئيس الأمريكي ترامب باباً للحوار وربما صفقة تهدئة كما حدث بينهم وبين السعودية في وقت سابق. هذا التقييم يعكس سذاجة فهمهم لطبيعة العسكرية الأمريكية، ويتجاهل تراجع الدعم الإقليمي وضعف الدولة الراعية “إيران”. مع ذلك، فإنّ الرهان على أن التصعيد العسكري الأمريكي سيؤدي إلى القضاء على الحوثيين كلياً، يقلل من تعقيدات المشهد على مستويات عدة، فالولايات المتحدة لن تغامر بكلفة حرب جديدة أو حتى استمرار حملتها الجوية العسكرية لمدة طويلة؛ في ظل التضخم الذي تشهده البلاد وتراكم الديون وتأرجح قيمة الدولار. كما إنّ تصريح وزير الدفاع الأمريكي بيت هيجسيث، أكد التزام إدارة ترامب الواضح بممارسة ضغوط عسكرية على الحوثيين في حال استمروا في هجماتهم على السفن في البحر الأحمر. هذا الموقف يشير بوضوح، إلى أنّ العمليات العسكرية الأمريكية الهادفة إلى ردع الحوثيين ستبقى محدودة رغم قوتها، إلا أنّها لن تنهي الجماعة بشكل كامل. 

لهذا السبب، لم ينخرط الإقليم في مواقف واضحة بشأن الحملة العسكرية الأمريكية ضد الجماعة الدينية، فالسعودية على سبيل المثال: وصفت في سيل من التغريدات؛ المزاعم المتداولة عن دعم لوجستي للعملية العسكرية باليمن بالمضللة. ومع تصاعد الضغط الأمريكي على مناطق سيطرة الحوثيين، تجد الرياض نفسها في مأزق سياسي وأمني واضح، فهي تسعى جاهدة لتجنب أي مواجهة مباشرة مع الحوثيين، بعد أن استدارت للخلف من أجل التهدئة لأكثر من سنتين حفاظاً على استقرارها وأمنها القومي. وفي الوقت نفسه، لا يمكنها تجاهل النفوذ الأمريكي المتزايد في المنطقة، خاصة فيما يتعلق باستخدام مجالها الجوي، وهو ما يفرض عليها معادلة صعبة تتطلب توازناً دقيقاً بين مصالحها الوطنية والتزاماتها تجاه حلفائها.

حسابات القوى اليمنية 

منذ مطلع العام الحالي، سُجلت عدة محاولات حوثية حثيثة للتسلل والهجوم في جبهات مأرب والجوف. فضلا عن هجمات أخرى في تعز ونقاط التماس الحدودية مع الضالع وأبين وشبوة ولحج. ووفقاً لمصدر عسكري، فإنّ الهدف الحوثي من عملية التسلل هو زراعة الألغام في هذه المناطق تمهيداً لعملية عسكرية أوسع. وهو فيما يبدو محاولة حوثية لإحداث تغيير في خارطة السيطرة العسكرية لصالحهم، مما يخفف عنهم الضغوط الدولية التي بدأت الأشهر الأخيرة، فضلاً عن ذلك، يتواجد في مأرب النفط والمصفاة ومصادر الغاز، وهو ما يشجع الجماعة الدينية على التقدم بعد حضر استيراد الوقود من الحديدة بسبب العقوبات الأمريكية.

في الوقت نفسه، يُثير الغياب الملحوظ لموقف رسمي من الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً تجاه الضربات الأمريكية التي تستهدف الحوثيين، جملة من التساؤلات حول الدوافع وراء هذا الصمت اللافت، في ظل التطورات المتسارعة على الساحة اليمنية. باستثناء الموقف المنفرد الذي عبّر عنه نائب المجلس الرئاسي ورئيس المجلس الانتقالي الجنوبي عيدروس الزبيدي، خلال زيارته الأخيرة إلى أرخبيل سقطرى. حيث أكد الزبيدي على ضرورة  دعم جهود واشنطن لتأمين الملاحة الدولية وإلى تبني “استراتيجية شاملة تتكامل فيها الأدوار المحلية والإقليمية والدولية لحفظ الأمن والاستقرار في المنطقة وحماية ممرات الملاحة الدولية”. فيما اعتبر عضو المجلس الرائاسي، طارق صالح، “الضربات الأمريكية رسالة واضحة بأن المجتمع الدولي يدرك خطورة الميليشيات المدعومة من إيران على الأمن والسلم الدوليين”.

هذا الوضع، يكشف بجلاء عن حالة من التصدع داخل كيان المجلس الرئاسي في اليمن. فبدلاً من تقديم جبهة موحدة يفترض أنّ الأطراف الشمالية في المجلس تتبناها وتدفع بها، يذهب الجنوبيون إلى تقديم أنفسهم كحليف موثوق للولايات المتحدة في معركتها لتأمين الملاحة الدولية في مضيق باب المندب وخليج عدن. 

هذا التصدع لا يقتصر فقط على المستوى السياسي الظاهر، بل يمتد إلى المستوى الإداري أيضاً، حيث لم يجتمع أعضاء المجلس الرئاسي مطلقا، منذ بدء الهجمات الأمريكية ضد الحوثيين في 15 مارس 2025. كما لم يلتق رئيس المجلس رشاد العليمي بأعضاء الحكومة منذ عودته إلى عدن في 10 مارس. ويعكس ذلك لامبالاة واضحة بالتطورات الراهنة، وانشغالاً بالخلافات الداخلية، خاصة في ظل التوتر القائم بينه وبين رئيس الحكومة أحمد بن مبارك. وهذ الانفصال بالتبعيّة؛ يعمّق من حالة الانقسام بين القيادة السياسية والإدارة التنفيذية، ويؤثر سلباً على قدرة المجلس على التعامل بفعالية مع التحديات الراهنة التي تواجه البلاد، بينما يفرض عليه الواقع راهناً أن يكون في صدارة المشهد. ويمكن ملاحظة التحرك الوحيد في هذا السياق هو الاجتماع الذي أجراه العليمي مع الهيئة العسكرية المشتركة في عدن، بعد يوم واحد من العمليات الأمريكية على صنعاء. وبحسب وكالة سبأ استمع العليمي إلى تحديث بشأن التطورات المرتبطة بالغارات الجوية الامريكية على المواقع العسكرية للحوثيين. كما حملّ الاجتماع “المليشيات الحوثية المسؤولية الكاملة عن هذا التصعيد وجلب العقوبات الدولية وعسكرة المياه الإقليمية.”

من الجدير بالتأكيد أن جميع الأطراف اليمنية، سواء كانت سياسية أو عسكرية، تنطلق في مواقفها من حسابات خاصة وهواجس مشروعة بشأن ما قد تؤول إليه الأمور في حال تم القضاء على الحوثيين. إذ تبرز تساؤلات جوهرية حول مستقبل جنوب اليمن، وكيفية توزيع النفوذ والموارد في مرحلة ما بعد الصراع، فضلاً عن ما إذا كانت الأطراف المنخرطة في مواجهة الحوثيين ستحصل على مكاسب تتناسب مع تضحياتها، وفي مقدمتها الجنوبيون الذين كانوا في صدارة خطوط المواجهة. هذا ما يجعل من الضروري أن يضع المجتمعان الدولي والإقليمي هذه المخاوف في الحسبان عند صياغة أي رؤى أو مبادرات سلام تخص مستقبل اليمن.

صنعاء نقطة التحوّل

حتى الآن، وعلى الرغم من التصريحات المتكررة الصادرة عن القادة السياسيين والعسكريين من جانب الحكومة المعترف بها حول الاستعداد التام لمواجهة الحوثيين، إلا أنّ المؤشرات الحالية لا توحي بأن الصراع قد يتجه نحو تصعيد عسكري شامل في الجبهات القتالية، خاصة في مأرب والجوف، حيث لا تزال العمليات هناك ذات طابع دفاعي. وهو ما يدل على أنّ هذه التصريحات مازالت تندرج في إطار الحرب النفسية أكثر من كونها تعبيراً عن نوايا حقيقية لشن حرب. على سبيل المثال: أعلنت المقاومة الشعبية في مديريات محافظة تعز عن استعدادها الكامل للمشاركة الفاعلة في معركة استكمال تحرير المحافظة واستعادة الدولة والتقدم نحو إب. ومع ذلك، يظل هذا الحديث في إطار التعبئة الشعبية غير الموجهة أو المدعومة من قبل القيادات السياسية، بما في ذلك رئيس المجلس الرئاسي المنحدر من نفس المحافظة. 

علاوة على ذلك، لم يعد الحديث عن التوجه لتحرير محافظة الحديدة لوحدها أولوية في ظل التطورات الأخيرة. فالهجمات الحوثية في البحر الأحمر لا تنطلق فقط من محافظة الحديدة، بل من عدة مناطق مثل البيضاء وتعز وصعدة وحجة وذمار. وعلى الرغم من أنّ تحرير ميناء الحديدة، الذي يمثل المنفذ الدولي البحري الوحيد للحوثيين إلى العالم، سيلحق خسائر لوجستية بالجماعة ويحد من تهريبهم للأسلحة والذخائر، ويقطع شريان اقتصادي هام عنها، إلا أنّ المعركة باتجاه صنعاء والمناطق الجبلية المتاخمة لها في ذمار وحجة هي الحاسمة، باعتبارها المركز السياسي والعسكري للحوثيين. 

من منظور استراتيجي، يمثل سقوط المؤسسات التي يديرها الحوثيون في المركز، أي صنعاء، نقطة تحوّل حاسمة من شأنها أن تؤدي إلى انهيار المنظومة الحوثية في باقي المحافظات التي يسيطرون عليها. إنّ السيطرة على صنعاء كعاصمة، سيؤدي غالباً إلى سقوط باقي المناطق ومؤسساتها تباعاً، كما حدث في دمشق بسوريا مع أحمد الشرع، فلم يكن الأخير وقواته يسيطرون على كامل الأراضي السورية ومازالت بعض المناطق حتى اليوم ليست تحت نفوذ الشرع، مع ذلك أقيمت الدولة السورية وتمّ استعادتها. وهذا من شأنه أن يثير تساؤلاً جوهرياً: لماذا يتم التركيز على تحرير مناطق يمنية أخرى بهدف التفاوض لاحقاً على صنعاء؟ أليس من الأجدى والأكثر فعالية التركيز على تحريرها كعاصمة منذ البداية؟

إجمالاً، يتضح أنّ قرار الحسم العسكري في اليمن لم يعد قراراً يمنياً خالصاً، بل يتأثر بشكل كبير بتغيرات المصالح الإقليمية. ففي حين كانت العمليات العسكرية السابقة تُدار بتنسيق بين الحلفاء الإقليميين وفي مقدمتهما السعودية والإمارات، يُثار التساؤل اليوم حول الجهة الإقليمية التي ستتولى الإشراف على أي معارك مقبلة، وحول القوى العسكرية المحلية التي سيتم الاعتماد عليها على الأرض، خاصة في ظل تنصّل الأطراف الإقليمية من الانخراط المباشر في أي مواجهات عسكرية. بالإضافة إلى ذلك، فإن سعي المملكة العربية السعودية إلى الخروج من الصراع بأي ثمن يحد من قدرتها على اتخاذ أي خطوات عسكرية دون وجود ضمانات دولية قوية، خاصة بعد أن شعرت بتخلي المجتمع الدولي عنها لسنوات، قبل أن يدرك خطورة التهديد الحوثي في الآونة الأخيرة. 

في المحصلة، يبقى مسار الصراع في اليمن ضبابيًا، ولا تزال وجهته النهائية غير واضحة. ومع ذلك، فإن أي معركة حاسمة متوقعة على الأرض ستلقى قبولًا شعبيا أوسع إذا جاءت ضمن إطار إقليمي عربي واضح ومعلن. فرغم أهمية الدعم الجوي الأمريكي، إلا أنه لا يحظى بذات الشرعية الشعبية التي قد يوفرها موقف عربي جامع داعم منذ اللحظة الأولى. وربما يتفهم اليمنيون التدخل الأمريكي في سياق ردع تهديدات الحوثيين للملاحة الدولية، لكن من غير المرجح أن يتقبلوا تدخلا عسكريا أمريكيا بريا مباشرا، لما يحمله من مخاطر تعقيد إضافي للمشهد اليمني الداخلي.

لذلك، فإن أي تحرك عسكري محتمل ينبغي أن يُبنى على رؤية استراتيجية شاملة تضمن إشراك كافة القوى اليمنية، وأن يصدر عن قرار سياسي موحد، مدعوم بإسناد إقليمي فعّال. فبدون هذا الإطار، ومع تصاعد الضغوط العسكرية والاقتصادية على جماعة الحوثي، فإنها قد تلجأ إلى خيار التصعيد الشامل. ومن هنا، تصبح جاهزية الأطراف اليمنية للتعامل مع هذا السيناريو ضرورة ملحّة، لا على صعيد الدفاع فحسب، بل على مستوى الهجوم أيضًا.

فريدة أحمد

المديرة التنفيذية لمركز سوث24 للأخبار والدراسات

ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة عدن تايم , ولا يعبر عن وجهة نظر حضرموت نت وانما تم نقله بمحتواه كما هو من عدن تايم ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة على المصدر السابق ذكرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى