مراجعة بعثة الحُديدة الأممية : بين عجز المراقبة وواقع هيمنة الحوثيين

تشير أحدث التطورات إلى أن البعثة الأممية لدعم اتفاق الحُديدة (UNMHA) باتت تخضع لمراجعة مستعجلة في ضوء واقع ميداني وإقليمي متغيّر بصورة حادّة، وإن كان ما يُعلَن عن هذه المراجعة يغلفه بعض الغموض من حيث الأهداف والنتائج المرجوّة، لا سيّما في ضوء حضور قوي لمليشيات الحوثي في محافظة الحُديدة والموانئ التابعة لها وارتباط هذا الحضور بأبعاد إقليمية وعسكرية واقتصادية، هذا المقال يستعرض خلفية الأمر، دوافع المراجعة، الموقف المحتمل لمليشيات الحوثي، وتبعات ذلك على المشهد اليمني، مع إبقاء أسلوب تحليل رصيد المعرفة الأكاديمية والتحليل السياسي، مع سياق المقارنات الدولية حيث ينطبق.
خلفية المراجعة
اتفاق ستوكهولم الذي وُقّع أواخر 2018 برعاية أممية مثّل حينها بارقة أمل لإنهاء الحرب في الساحل الغربي، لكنه تحوّل مع الوقت إلى عبء سياسي وأمني بسبب غياب التنفيذ وتبدّل الوقائع الميدانية، فقد أوقف ذلك الاتفاق عملية التحرير التي كانت على وشك استعادة ميناء الحديدة، ومنح مليشيات الحوثي فرصة لإعادة ترتيب دفاعاتها وتثبيت نفوذها، وهو ما انعكس سلباً على مجمل توازن القوى في غرب اليمن، في 14 يوليو 2025، اعتمد مجلس الأمن الدولي القرار رقم 2786 (2025) الذي جدّد فيه تفويض البعثة الأممية حتى 28 يناير 2026، مع إدراج بند يُعبّر عن �نية مراجعة كامل الخيارات الخاصة بمهام UNMHA بما في ذلك تقييم الجدوى المستقبلية وإنهاء المهمة أو تعديلها� إن اقتضت التطورات الميدانية، كما أشار تقرير أمين عام الأمم المتحدة إلى مقترح دمج مكتب البعثة ضمن مكتب المبعوث الخاص لليمن لتحسين التنسيق وتقليص التداخل، ومن جهتها، الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً دعت إلى إنهاء مهمة البعثة، معتبرة أنها أصبحت �عبئاً وتمكيناً لمليشيات الحوثي� من السيطرة الاقتصادية والعسكرية على الموانئ، إذن البعثة التي أُنشئت في 2019 لدعم تنفيذ اتفاق ستوكهولم تتراجع أمام تحديات على الأرض لم تعد تُمكِّنها من تنفيذ مهمتها كما صُمّمت عليها، لا سيّما في سياق الحديدة والموانئ الثلاثة: الحُديدة، الصليف، رأس عيسى.
دوافع المراجعة
أولاً: تدهور وقف إطلاق النار والتنفيذ، تشير التقارير إلى أن معدل انتهاكات وقف إطلاق النار في الحديدة من قبل الميلشيات تجاوز أكثر من مئة انتهاك يومياً في الفترة من يونيو 2024 إلى مايو 2025، وذلك وفقاً لتقرير الأمين العام، ثانياً: الأهمية الاستراتيجية للموانئ وإشكالية الانتفاع بالمساعدات، يمر عبر موانئ الحُديدة نحو 70 في المائة من واردات اليمن التجارية و80 في المائة من المساعدات الإنسانية، هذا الواقع يجعل سيطرة مليشيات الحوثي على هذه الموانئ عاملاً حاسماً في تمويلها العسكري وتحقيقها السياسي، ثالثاً: ارتباط الملف اليمني بملفات اقليمية أكبر مثل الأمن البحري في البحر الأحمر والمضائق البحرية والهجمات على السفن التجارية، ما يضع البعثة تحت ضغط دولي لإعادة النظر في مهمتها، كما أن تصاعد الأنشطة العسكرية في البحر الأحمر وتوسّع نطاق التحالفات البحرية الدولية بعد عام 2023 جعل من الحُديدة بُؤرة تقاطع بين الأمن الإقليمي وخطوط الملاحة العالمية، ما دفع أطرافًا دولية لإعادة النظر في مستقبل البعثة الأممية من منظور أمني أوسع يتجاوز الشأن اليمني، رابعاً: غياب الفعالية التشغيلية للبعثة حسب الحكومة اليمنية، التي ترى أنها لم تنجح في منع نقل الأسلحة أو إقامة مواقع عسكرية في الحديدة، ولم تُفعّل إعادة الانتشار كما نصّ الاتفاق.
موقف ومراوغات مليشيات الحوثي
مليشيات الحوثي، باعتبارها الطرف المهيمن في الحديدة والموانئ، تواجه المراجعة الأممية بمزيج من الانتظار والمناورة وليس بالتعاون الواضح، ففي الواقع تحتفظ المليشيات بقدرتها على تعطيل حركة بعثة UNMHA ورصدها، عبر فرض قيود على دخول المراقبين أو تحديد مساراتهم، وتواصل استخدام الموانئ كمراكز مالية ولوجستية لتعزيز بنى الدعم العسكري، ويرى طرف الحكومة أن المليشيات جمعت أكثر من 789 مليون دولار بين مايو 2023 ويونيو 2024 من عوائد الموانئ ولم توجه إلى الرواتب أو الخدمات بل لتعبئة عسكرية، وتستخدم المليشيات سيطرتها على الموانئ لإعادة إنتاج نفوذها السياسي عبر التحكم في تدفق المساعدات الإنسانية وإعادة توزيعها لخدمة شبكات الولاء التابعة لها، وهو ما حوّل الملف الإنساني إلى أداة سياسية واقتصادية بامتياز.
لقد استفادت المليشيات إلى أقصى حد من توقف عمليات تحرير الحديدة، إذ حوّلت الموانئ إلى شريان تمويل رئيسي لمجهودها الحربي، وتدفقت إليها خلال العامين الماضيين شحنات متواصلة من الأسلحة والمعدات العسكرية المتطورة عبر شبكات تهريب بحرية إيرانية المصدر، ما مكّنها من تطوير قدراتها في استهداف السفن التجارية في البحر الأحمر وخليج عدن، وقد شهد عام 2024 سقوط السفينة البريطانية ماجيك سيز والسفينة إيترنيتي سي في مياه البحر الأحمر بعد استهدافهما بصواريخ حوثية، تلاها في مطلع 2025 الهجوم على السفينة الهولندية في خليج عدن، وهي حوادث كشفت مستوى التهديد الذي تمثله المليشيات للأمن البحري العالمي، كما أكدت أن اتفاق ستوكهولم لم يكن فقط سيئ التنفيذ بل أسهم فعلياً في تحويل الحديدة من منطقة نزاع إلى قاعدة تهديد إقليمي، الأمر الذي يضاعف فشل البعثة الأممية التي لم تضع أي قيود ميدانية حقيقية على هذه الأنشطة المتصاعدة.
إن قُدِّمت تغييرات جوهرية في مهام البعثة أو إذا طلب منها فرض مراقبة أقوى أو إعادة الانتشار الفعلي فهنالك احتمال أن المليشيات تستعد لرد فعل أو لتعزيز مواقعها تجنّباً لأي تقييد جديد، لكنها في المقابل قد تفضّل بقاء الوضع كما هو لأن استمرار البعثة بمهامها المحدودة يمنحها غطاءً دولياً واقتصادياً من دون تغيّر جوهري في قواعد اللعبة.
التبعات المحتملة
إذا ما مضت المراجعة في اتجاه تقليص مهام البعثة أو دمجها ضمن هيكل أكبر فإن ذلك قد يؤدي إلى زيادة مساحة تشغيل للمليشيات، إذ أن تخفيف الرقابة يُتيح لها التوسع أكثر في السيطرة الاقتصادية والعسكرية للموانئ، وتقويض مصداقية الأمم المتحدة في اليمن، ما قد يُضعِف دعواتها لاحقاً لوقف إطلاق النار أو إعادة الانتشار، وتحميل الحكومة اليمنية مزيداً من الأعباء وحدها، وربما دفعها إلى خيارات عسكرية أو تفاوضية مضغوطة لاستعادة الحديدة، أما إن سارت المراجعة في اتجاه تعزيز مراقبة البعثة وتوسيع صلاحياتها فإن النتيجة قد تكون مواجهات أوسع بين البعثة والمليشيات، خصوصاً إن طُلب من الأخيرة تسليم مواقع أو إفساح المجال لعمليات مراقبة أوسع، ودخول الملف إلى إطار دولي أوسع يُربط مجدداً بمشاكل الأمن البحري في الخليج العربي والبحر الأحمر، ما يرفع كلفة التوتر بالنسبة للمليشيات، واحتمال أن تُستخدم الموانئ والمناطق الخاضعة لسيطرة المليشيات كمسرح لضغط دولي أو عقوبات أعلى ما يغيّر حساباتها، ذلك يعني أن مصير بعثة الحديدة لن يُحدّد فقط مستقبل توازن القوى في الساحل الغربي، بل سيمتد ليؤثر في معادلة الأمن البحري في البحر الأحمر والخليج العربي، حيث تشكّل خطوط الإمداد عبر تلك الممرات أحد أعصاب الاقتصاد العالمي.
مقارنات دولية
من منظور تجريبي يمكن تشبيه الوضع بتجارب سبق أن حدثت في مناطق نزاع أخرى حيث مهمة مراقبة دولية أصبح وجودها فاقداً للفعالية بسبب سيطرة طرف محلي وتحويلها إلى �غطاء شرعي� ليس أكثر، مثال ذلك تجارب مراقبة وقف إطلاق النار في ليبيا أو السودان التي انخفضت فعاليتها مع تعزيز طرف محلي سيطرته، كما تُذكّر المراجعة الحالية بتجارب مشابهة في إفريقيا الوسطى والكونغو، حيث تحوّلت مهام حفظ السلام الأممية إلى وجود رمزي عاجز عن فرض قراراته أمام ميليشيات محلية مدعومة إقليمياً، وهو ما يُكرّر المأزق ذاته في اليمن، هذا التشابه يضع ملاحظة جوهرية: مجرد استمرار مهمة دولية لا يعني بالضرورة نجاحها في تغيير الواقع على الأرض.
خلاصة
المراجعة التي تقترحها الأمم المتحدة للبعثة في الحديدة ليست مجرد “تعديل إداري” بل هي انعكاس لتغيّر موازين النفوذ على الأرض وفي الإقليم، مليشيات الحوثي تبدو أكثر حرصاً على بقاء الوضع القائم منها على تقويضه، أما الحكومة اليمنية والمجتمع الدولي فيضعون رهانات على ما إذا كانت البعثة ستتحول من مراقب ضعيف إلى عامل فاعل أو أنّها ستنكمش وتُترك ميادين أكبر للمليشيات، والنتيجة النهائية لهذه المراجعة لن تؤثر فقط على الحديدة بل على مصير سير النزاع اليمني ومستقبل الحل السياسي، وفي المحصلة ما لم تَستعِد الأمم المتحدة فاعليتها الميدانية وتتعامل مع المليشيات باعتبارها سلطة أمر واقع تُقوّض القانون الدولي، فإن مراجعة البعثة لن تكون سوى عملية تجميل سياسي لواقع تُكرّسه المليشيات يوماً بعد آخر.
أ.د. عبدالوهاب العوج أكاديمي ومحلل سياسي يمني
جامعة تعز
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة عدن تايم , ولا يعبر عن وجهة نظر حضرموت نت وانما تم نقله بمحتواه كما هو من عدن تايم ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة على المصدر السابق ذكرة.








