عصابة الحوثي .. ما وراء إغلاق المساجد واستهداف دور الحديث واعتقالات موظفي الأمم المتحدة والمنظمات الدولية ؟

تتوالى هذه الأيام والأسابيع الأخيرة انتهاكات الجماعة الحوثية التي تؤشر إلى سياسة ممنهجة لتطهير المشهد الديني والاجتماعي تحت ذريعة �الحفاظ على الأمن� و�محاربة التجسس�، بخطوات تتراوح بين إغلاق مساجد ومراكز دينية سلفية تُخالف توجهها المذهبي الجارودي، واستهداف دور الحديث ومراكز تحفيظ القرآن، وبين موجات اعتقالات واسعة تستهدف نشطاء دينيين ومراكز علمية سلفية، وصولاً الى حملة اعتقالات واسعة طالت موظفين أمميين بتهم �التجسس�، ما يعكس تحوّلاً خطيراً نحو استبدال التعدد الديني والاجتماعي برؤية أحادية السيطرة، وهذه السياسة لا تدار بمعزل عن الحسابات الأمنية والسياسية للجماعة، بل هي جزء من مشروع أوسع لتجذير هيمنتها الإيديولوجية والسلطوية في المناطق التي تسيطر عليها.
تقارير متعددة ترصد عمليات إغلاق ممنهجة لمراكز دينية ومداهمات لدور الحديث في محافظات مثل إب وذمار وصنعاء و الحديدة و ريمة، فالجماعة منذ سنوات تعمل على استهداف من يُنظر إليهم كمنافذ تعليمية أو دينية لا تتواءم مع مشروعها، وتستخدم الإغلاق والاعتقال والتشويه الإعلامي لتفريغ هذه المراكز من تأثيرها، وتحويل المساجد والدوائر الدينية إلى أدوات تعبئة من جانبها أو إلى مساحات مراقبة أكثر مما هي أماكن عبادة وتعليم مستقل. هذه الممارسات ليست جديدة من حيث المبدأ لكنها تعود اليوم بوتيرة وتصعيد يهدفان لإقفال أي مساحة دينية مستقلة
إنّ المتابع لمسار السلوك الحوثي يدرك أنه لم يعد سلوكاً داخلياً منفصلاً عن بيئة التحولات الإقليمية، فالجماعة باتت ترى في أي تحرك ديني أو مدني مستقل تهديداً مباشراً لهيمنتها العقائدية المرتبطة بالمشروع الإيراني، ولهذا جاءت حملات إغلاق المساجد ودور الحديث بالتزامن مع تصعيد دعائي وسياسي تجاه الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، ضمن رؤية تعتبر أن أي صوت أو مؤسسة لا تعمل تحت إشرافها تُعدّ أداة محتملة للتجسس أو للنفوذ الأجنبي، وهي رؤية تعيد إنتاج نمط السيطرة الذي سلكته الأنظمة الثيوقراطية التي سبقتها، من إيران إلى حزب الله في لبنان.
في البعد الإقليمي، فإنّ هذا السلوك الحوثي يتقاطع بوضوح مع الخطاب الإيراني الذي يهاجم المنظومة الدولية، ويصفها بأنها خاضعة لهيمنة غربية، فإيران التي تواجه عزلة متزايدة منذ اندلاع حرب غزة وسلسلة العقوبات الأمريكية الجديدة، تُوظف أذرعها في المنطقة لإظهار قدرتها على مقاومة الضغوط، والحوثيون يمثلون في هذا السياق أحد أدواتها النشطة في اليمن والخليج العربي، فهم يبعثون برسالة مزدوجة: إلى الداخل اليمني بأنهم “سلطة الأمر الواقع” القادرة على إخضاع الجميع، وإلى الخارج بأنهم لاعب لا يمكن تجاوزه في أي تسوية أو تفاوض.
لكن خطورة هذه المعادلة تتجلى في كونها تهدد البنية المجتمعية اليمنية ذاتها، فالمساجد ودور الحديث والمدارس القرآنية كانت تاريخياً ملاذاً للهوية اليمنية المتنوعة، وكانت تمثل فضاءً جامعاً يتجاوز الانقسامات المذهبية والمناطقية، بينما يسعى الحوثيون اليوم لتحويلها إلى أدوات تجنيد وتلقين عقائدي مغلق، وهذا ما يُعيد المجتمع اليمني إلى طور من التطييف الديني الذي عرفته المنطقة في أسوأ مراحلها، حين تحولت المؤسسات الدينية إلى جبهات أيديولوجية لا تعرف سوى التبعية والولاء المطلق.
أما على الصعيد الدولي، فاستمرار الأمم المتحدة في إبقاء مكتب المبعوث الأممي غروندبرغ في صنعاء رغم الاعتقالات والتحريض يعكس معادلة شائكة بين الضرورة والشرعية، فالمبعوث لا يستطيع إدارة المسار السياسي دون تواجد ميداني، وفي الوقت نفسه هذا التواجد أصبح رهينة بيد الجماعة التي تستخدمه كورقة مساومة، إذ تسعى عبر الضغط على موظفي المنظمة إلى تكييف نشاط المكتب الأممي بما يخدم رؤيتها السياسية، وقد شهدت السنوات الماضية تكراراً لهذه الأساليب حين أُغلقت مكاتب دولية أو جرى فرض قيود على تنقلات الموظفين، من دون أن يترتب على ذلك ردع فعلي.
إصرار الأمم المتحدة على البقاء في صنعاء من دون ضمانات حقيقية لأمن موظفيها يعكس عجز النظام الأممي عن مواجهة الانتهاكات، ويطرح أسئلة حقيقية حول مدى استقلالية المبعوث الأممي هانس غروندبرغ ومؤسساته أمام سلطة الأمر الواقع، فالعلاقة التي كانت تقوم على �التعاون الإنساني والسياسي� تحوّلت عملياً إلى علاقة إذعان مؤقتة، ما يُضعف هيبة الأمم المتحدة ويعطي انطباعاً بأن الجماعة قادرة على التحكم حتى في أدوات المجتمع الدولي.
إنّ إدانات الحكومة اليمنية المتكررة لاعتقال موظفي الأمم المتحدة، وتوصيفها للأمر بأنه “تصعيد خطير ضد العمل الإنساني”، لم تلقَ حتى الآن استجابة فاعلة، لأن المجتمع الدولي يتعامل مع الملف اليمني بمنطق إدارة الأزمات وليس حلّها، فالأولوية تُعطى لتأمين خطوط المساعدات وتخفيف الكارثة الإنسانية، لا لمعالجة الأسباب السياسية التي أنتجت هذا الواقع، وهو ما يمنح الحوثيين هامشاً واسعاً للمناورة. ولذا فإنّ صمت المجتمع الدولي أو اكتفاؤه ببيانات الإدانة يمنح الجماعة شعوراً بالحصانة، ويدفعها لمزيد من الاستفزاز والابتزاز السياسي.
على المستوى الاستراتيجي، فإن حملة الاختطافات الأخيرة التي طالت قيادات مدنية ودينية وأكاديمية بتهم �التجسس� تشير إلى أن الجماعة في مرحلة ما بعد الهدوء العسكري تتجه لتعويض التراجع في الجبهات العسكرية عبر إحكام السيطرة الأمنية، وإعادة ترتيب الداخل بما يضمن لها بقاء النفوذ بعد أي تسوية قادمة، فعمليات التصفية والاعتقال اليوم ليست سوى عمليات “تحصين سياسي مسبق” لضمان عدم ظهور قوى معارضة فاعلة في مرحلة ما بعد الحرب.
وفي هذا الإطار، يمكن قراءة الحملات الحوثية الأخيرة على أنها جزء من استراتيجية تمهيدية لفرض واقع تفاوضي جديد، خصوصاً في ظل تصاعد الاتصالات غير المعلنة بين الرياض وصنعاء بوساطة عمانية، فالجماعة تحاول أن تظهر بمظهر الدولة المستقلة التي تحمي سيادتها ضد أي اختراق خارجي، لكنها في الواقع تستخدم هذه الادعاءات لتصفية حساباتها الداخلية، وتوسيع نفوذها الديني والسياسي تحت مظلة �محاربة الجواسيس� و�تنقية المجتمع�.
أما الأثر البعيد لهذه السياسات فيتمثل في تعميق الفجوة بين الشمال والجنوب، وبين المناطق الخاضعة للحوثيين والمناطق المحررة، فكلما توسعت دائرة القمع والإغلاق والاعتقال في الشمال، كلما اتسعت الهوة النفسية والسياسية مع بقية مناطق اليمن، وهذا ما يجعل أي مشروع وطني جامع أكثر صعوبة، بل ربما مستحيلاً في ظل منظومة حوثية تعتبر التنوع تهديداً وجودياً لها.
وبالنظر إلى التجارب الدولية، فإنّ نماذج مشابهة يمكن ملاحظتها في دول كإيران و العراق ولبنان، حيث أدى تحالف السلاح والمذهب إلى إفراغ المؤسسات الدينية من استقلالها وتحويلها إلى أذرع أمنية أو سياسية، ما أنتج أجيالاً محكومة بالخوف والولاء القسري، وهي ذات البذرة التي يُراد غرسها اليوم في اليمن عبر منظومة حوثية تتغذى من فكرة �الحق الإلهي� و�الولاية�، وتتعامل مع المجتمع باعتباره أداة تعبئة لا شريكاً في المواطنة.
إنّ ما يجري في صنعاء وذمار ليس مجرد انتهاك لحقوق الأفراد والمؤسسات، بل هو معركة هوية مكتملة، تُدار فيها أدوات الدين والتعليم والإغاثة ضمن مشروع يستهدف مصادرة الوعي العام وإخضاعه لمرجعية واحدة، لذلك فإنّ مسؤولية القوى الوطنية والمثقفين والعلماء لا تقتصر على التنديد، بل على استعادة الخطاب الديني المعتدل وتفعيل مؤسسات المجتمع المدني في المناطق المحررة لتكون نموذجاً مضاداً للنموذج الحوثي، مع توثيق الانتهاكات ونقلها للمحافل الدولية بلغة قانونية وممنهجة، حتى لا تبقى الجرائم طيّ النسيان أو جزءاً من �الاعتياد اليومي� الذي تسعى الجماعة لترسيخه والتأكيد على ان مليشيات الحوثي لا تقبل بالأخر سواء كان سلفيا او مؤتمريا او اصلاحيا او اشتراكيا او اي كان، وبمعنى آخر تريد استعباد الشعب من قبل حفنة تدعي القداسة تمثل هاشمية سياسية دخيلة اتت الى اليمن من طبرستان و الديلم.
وفي المحصلة، ما لم يتوافر موقف وطني موحد ودعم دولي صريح لحماية الحريات الدينية والمدنية، فإنّ اليمن ماضٍ نحو نموذج دولة بوليسية دينية مغلقة، تدار بسلطة الخوف والمراقبة، ويُخنق فيها التعليم والإغاثة والإعلام، وهو ما سيجعل كل محاولات السلام مجرد هدنة فوق أرض مشتعلة، و المطلوب اليوم ليس فقط إدانة الاعتقالات وإغلاق المساجد، بل تفكيك المنظومة الفكرية والسياسية التي تنتج هذه الانتهاكات، فبدون ذلك لن يكون هناك سلام مستدام ولا دولة قادرة على حماية مواطنيها.
أ.د.عبدالوهاب العوج
أكاديمي ومحلل سياسي يمني
جامعة تعز
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة عدن تايم , ولا يعبر عن وجهة نظر حضرموت نت وانما تم نقله بمحتواه كما هو من عدن تايم ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة على المصدر السابق ذكرة.








