صنعاء القديمة.. عندما يتحول الترميم إلى غطاء لتغيير هوية اليمن (وثائقي إرم)

في قلب مدينةٍ يتجاوز عمرها آلاف السنين… تتقدّم جرافات تحت غطاء الترميم، فتثير أسئلة أكثر مما تُجيب.

صنعاء القديمة، المدينة المدرجة على قائمة التراث العالمي، تواجه اليوم أخطر ما واجهته منذ أن صمدت في وجه الزلازل والحروب والفيضانات.

المناسبة: “ذكرى دخول اليمنيين في الإسلام”، كما يصفها الحوثيون، والزمان: الجمعة الأولى من رجب، والمكان: سوق الحلقة… أحد أعرق أسواق المدينة العتيقة.

ما يبدو احتفالًا دينيًا، يخفي خلفه مشروعًا ضخمًا يهدد الملامح الأصلية لصنعاء.

في يناير 2023، قال زعيم الحوثيين عبد الملك الحوثي إن علي بن أبي طالب دخل السوق هذا، وهنا أسلم اليمنيون. ومن هذا الخطاب، انطلقت خطة لإعادة تشكيل المكان كله… لا بوصفه سوقًا، بل مزارًا دينيًا.

سرعان ما تحوّلت هذه الرواية إلى مشروع ميداني.

بعد أيام، زار مهدي المشاط، رئيس المجلس السياسي الأعلى التابع للحوثيين، سوق الحلقة، وظهر في فيديو مسرّب وهو يطّلع على تصميم هندسي رقمي لمشروع ترميم السوق.

في ظاهر الأمر ترميم، لكن في العمق، تحذيرات متصاعدة من مشروع يهدد بطمس هوية صنعاء التاريخية وتحويل أسواقها ومبانيها إلى مزار ديني جديد.

“المشروع يسعى إلى هدم 4 أسواق تاريخية وسط صنعاء القديمة، من أجل بناء ساحة ومركز ديني أُطلق عليها (ساحة الإمام علي)، لتصبح مزاراً شبيهاً إلى حد كبير ببعض المزارات في إيران والعراق. التصميمات المنشورة تشير إلى مخالفة المشروع للطابع والطراز المعماري، وقد يؤثر ذلك على وضع المدينة ومكانتها”.

اليونسكو تدخلت بالفعل، وأجبرت الجماعة على إيقاف المشروع مؤقتًا. لكن الخطر لم يزُل بعد.
 لكن المنظمات الدولية ما زالت تحذّر.

قررت لجنة التراث العالمي الإبقاء على صنعاء القديمة ضمن قائمة التراث المعرض للخطر، وطالبت بوقف جميع مشاريع الترميم المخالفة، وخاصة سوق الحلقة.

ما تراه الجماعة مشروعا دينيا، يراه آخرون تهديدًا وجوديًا لهوية المدينة وتنوعها الثقافي.
في هذا السياق، يحذر مسؤولون يمنيون من خطورة تحويل المدينة إلى واجهة مذهبية. 

من التهديدات، أيضًا، ما وثقته دراسة علمية أجراها باحث في جامعة صنعاء، تكشف حجم التدهور المعماري في المدينة.

وفقا للباحث، دارس أبو نشطان فإن “صنعاء القديمة تعيش حالة من الفوضى والتدهور المفرط… تلوث بصري بالغ الحدة، وكتلة معمارية متنافرة، ضاعت فيها القيم المعمارية التي ورثناها من الأجداد”.

المخالفات طالت حتى “باب اليمن”، المدخل الرمزي للمدينة، الذي لم يسلم من التشويه.

وفي العام 2021، فُجّرت واحدة من أكبر قضايا التراث، بعد إزالة جامع النهرين بشكل كامل، بحجة انحراف القبلة.

“اتساع رقعة المخالفات بسبب غياب الوعي الأثري، وتهميش دور هيئة الآثار… كثير من المهندسين المعماريين لا يفقهون شيئًا في الخصوصية الأثرية”.

“استبدال مواد البناء القديمة كالطين والحجر بالجصّ والخرسانة يفقد المباني قيمتها التاريخية، ويشوّه شكلها… وهذا يُفقد المدينة جاذبيتها السياحية والرمزية”.

لكن من المسؤول؟

حاولنا التواصل مع الهيئة العامة لحماية المدن التاريخية.

رئيس الهيئة، عبد الوهاب المهدي، وعد بالرد، لكن لا جواب.

فيما يشير مسؤول في وزارة الثقافة إلى أن القرار النهائي بيد “اللجنة العليا للحفاظ على صنعاء القديمة”.

هكذا تواجه صنعاء القديمة خطرًا لا يأتي من الحرب ولا من الزمن، بل من الداخل.
من قرارات يدّعي أصحابها أنها لحماية المدينة، بينما تدفعها بعيدًا عن ملامحها الأصلية، نحو هوية مذهبية مفروضة.

صنعاء… التي قاومت الحصار والسقوط، تواجه اليوم معركة من نوع مختلف.

معركة ضد التزوير، ضد الطمس، ضد اختطاف الذاكرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى