اخبار غزة : جرحى غزة بين البتر والأمل المؤجل

غزة –فداء حلس- تحاول الشابة فرح أبو قنيص (21 عامًا) الوقوف مجددًا على قدميها—أو ما تبقّى منهما، تتحرك بعكازين، تقاوم ثقل الجسد ومرارة الذاكرة، بعد أن فقدت ساقها اليسرى في قصفٍ استهدف منزلًا نزحت إليه في دير البلح وسط قطاع غزة قبل أشهر.
تبدأ حكاية فرح من قسم الاستقبال في مشفى شهداء الاقصى وسط القطاع، حيث أمضت يومين كاملين دون تلقي أي خدمة طبية نتيجة الازدحام الشديد والمكتظ لأعداد الجرحى، تقول بصوتٍ تختلط فيه الصدمة بالخذلان:”بقيت يومين في قسم الاستقبال دون تلّقي أي خدمة طبيّة نتيجة التكدس لكبير للجرحى وقلة الكادر الطبي، فتضاعفت آلامي بشكلٍ هائل، ما اضطر الأطباء إلى بتر ساقي بعد ثلاثة أشهر من المعاناة ومحاولات فاشلة لإنقاذها. تضيف بأسى:”ما كنت مصدقة إن رجلي راحت، كل شي بدي أعمله بحياتي صار مقيدني، ولازم حد يكون معي دايمًا.”
اليوم، تحاول فرح أن تبدأ من جديد، متنقلة بين الأجهزة والمساند داخل مركز الأطراف الصناعية، تشاركها في كل خطوة ذكرى الألم والحرمان، لكنها ترفض الاستسلام. تقول وهي تلتقط أنفاسها بعد تمرين طويل:”أريد أن أمشي دون أن يُشفق عليّ أحد.”
ورغم محاولات الطاقم الطبي دعمها نفسيًا وجسديًا، تبقى رحلتها نحو التأهيل محفوفة بعقبات، في ظل النقص الحاد في المعدات، وتأخر توريد الأطراف الصناعية وقطع الغيار إلى القطاع.
في بيت أحد أصدقائه، بحي النصر غرب مدينة غزة، يجلس الشاب عبد الله نطط (30 عامًا)، يحاول أن يستوعب فداحة ما جرى له.
لم يفقد عبد الله قدميه فقط في القصف الذي استهدف حي الرمال في 29 سبتمبر الماضي، بل فقد منزله وكل ما يملك، واستُشهد عدد كبير من أفراد أسرته في بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
يقول بصوتٍ متعب: “ما ظلّ إشي، لا بيت، لا حياة، ولا رجلين، كل شيء راح في لحظة.”
كان عبد الله يعيش حياة بسيطة في مشروع بيت لاهيا شمال قطاع غزة مع زوجته وطفله الصغير، ومع تصاعد القصف، اضطر للنزوح إلى حي النصر ظنًا منه أن المنطقة أكثر أمانًا، لكن الحرب لا تعرف مأمنًا في غزة.
في ذلك اليوم المشؤوم، كان في حي الرمال يقضي بعض الحاجات، حين سقط صاروخ بالقرب منه، سقط أرضًا غارقًا في الدماء، بينما تناثرت أجساد من حوله.
نُقل عبد الله إلى المستشفى البلجيكي الأوروبي، حيث مكث 25 يومًا يتلقى العلاج بعد أن بُتِرت قدماه من فوق الركبة.
يقول أحد الأطباء في المستشفى إن حالته كانت من أصعب الإصابات التي وصلت، بسبب شدة الانفجار وتهتك الأنسجة، ومع محدودية الإمكانات، جرى إنقاذ حياته بأعجوبة، لكنه خرج من المستشفى إلى واقعٍ أكثر قسوة.
يعيش عبد الله اليوم من دون علاج منتظم، إذ لا تتوفر الأدوية المسكنة ولا المستلزمات الضرورية لجرحى البتر.
“الأدوية غالية جدًا، وأنا مش قادر أشتريها، كل يوم الألم يزيد، وما في جهة بتساعد”، يقول بحسرة.
حصل على تحويلة طبية للعلاج بالخارج بهدف تركيب أطراف صناعية تساعده على استعادة جزء من حياته الطبيعية، لكن الإجراءات متوقفة، والمعابر مغلقة أمام المرضى منذ أشهر، ما يزيد معاناته يوماً بعد يوم.
رغم كل المآسي، لا يزال عبد الله يتمسك بخيط أمل رفيع. ينظر إلى صورة طفله ويقول:
“بحلم أركّب أطراف وأرجع أمشي، أضم ابني وأنا واقف، أعيش حياة عادية، وأنا مطرب ونفسي أشارك في مسابقات فنية عربية، مش حياة انتظار.”
لم يعد “البتر” في غزة مجرّد مصطلح طبي يصف فقدان جزء من الجسد، بل تحوّل إلى جرحٍ جماعيٍّ عميق يطال آلاف الأسر، ويعيد رسم ملامح الحياة اليومية لأفرادها.
فمنذ اندلاع الحرب الإسرائيلية عام 2023، وثّق المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان نحو 8,700 حالة إعاقة دائمة، بينها 4,800 حالة بتر، في ظل انهيار المنظومة الصحية وصمت العالم عن مشهدٍ يتجاوز حدود الألم الجسدي.
“فقدان القدم ليس نهاية الحركة فقط، بل بداية حربٍ داخلية لا تُرى”، تقول الأخصائية النفسية روضة حلس، وهي تصف رحلة مبتوري الأطراف بعد الإصابة.
وتضيف: “المريض يعيش صدمة حادة فور معرفته بالبتر، يليها إنكار أو عدم تصديق، ثم حزن عميق وقلق من المستقبل، وكثيرون يعانون من تدني احترام الذات أو عزلة اجتماعية خوفًا من نظرات الشفقة”.
تشرح حلس أنّ اضطراب ما بعد الصدمة شائعٌ بين الجرحى، خصوصًا من فقدوا أطرافهم في القصف، إذ تراودهم الكوابيس ونوبات الهلع المتكررة، لافتةً إلى أنّ الدعم النفسي والعائلي يلعب دورًا حاسمًا في تجاوز هذه المرحلة.
“لكن في بيئةٍ محاصَرة، بلا مراكز تأهيل ولا أخصائيين كفاية، يتحول الألم النفسي إلى عبءٍ طويل الأمد”، تضيف بحسرة.
في مشفى حمد للأطراف الصناعية في غزة، المشهد لا يقل قسوة عن ميدان المعركة. يقول أحمد العبسي، رئيس قسم الأطراف الصناعية في المشفى الممول من صندوق قطر للتنمية:“منذ افتتاح القسم في مارس 2025، استقبلنا مئات الحالات، لكننا لم نستطع توفير أطراف سوى لنحو 80 مريضًا فقط، رغم وجود أكثر من 400 إلى 500 حالة بتر مسجلة لدينا”.
ويشير العبسي إلى أنّ معظم المواد المستخدمة في صناعة الأطراف لم تدخل القطاع منذ عام 2023، مما اضطرهم لاستخدام ما تبقّى من مخزونٍ محدود، “وباتت القدرة على مواصلة التأهيل مهددة بالتوقف”.
تكلفة الطرف الصناعي، كما يوضح، “تتراوح بين 2000 و10,000 دولار حسب نوع البتر وجودة المواد، وهي مبالغ تفوق قدرة معظم العائلات المنكوبة”.
ويضيف: “كل طرف يحتاج إلى رحلة علاجية معقدة تمتد من شهرين إلى ثلاثة أشهر، تشمل العلاج الطبيعي، التأهيل الوظيفي، ثم التدريب على استخدام الطرف الصناعي”.
تقارير حقوقية حديثة تشير إلى أنّ نسبة ذوي الإعاقة في غزة ارتفعت بنحو 35% خلال 22 شهرًا فقط، ليصلوا إلى 3.4% من سكان القطاع.
لكن الكارثة، كما يصفها العاملون في المجال الصحي، ليست فقط في الأرقام، بل في تدمير أكثر من 80% من المراكز والجمعيات التي كانت تقدّم خدمات التأهيل لذوي الإعاقة.
ووفق منظمة الصحة العالمية، فإنّ الحصار المفروض منذ 2 مارس 2025 أدى إلى استنفاد أكثر من 56% من مخزونات المستلزمات الطبية الأساسية، مما جعل مراكز التأهيل تعمل في “ظروف أقرب إلى العدم”.
ورغم هذا الواقع القاسي، تؤكد الأخصائية روضة حلس أنّ كثيرًا من مبتوري الأطراف “يجدون طريقهم إلى التكيّف، بفضل الدعم العائلي والإصرار على استعادة حياتهم”.
لكنها تحذر من أن “القبول النفسي لا يمكن أن يتحقق في بيئةٍ بلا علاج ولا أمل”، داعيةً إلى “اعتبار التأهيل النفسي جزءًا أساسيًا من عملية العلاج الطبي”.
في ختام المشهد، يبقى السؤال مفتوحًا:
كيف يمكن لمجتمعٍ مثخنٍ بالجراح أن يضمّد نفسه وهو محاصر؟
وفي زمنٍ تُبتر فيه الأطراف والأحلام معًا، يبدو أن أكبر معركة يخوضها جرحى غزة اليوم ليست ضد الألم… بل من أجل أن يظلّوا بشرًا كاملي الروح، حتى وإن فقدوا جزءًا من الجسد.
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة وكالة معا الإخبارية , ولا يعبر عن وجهة نظر حضرموت نت وانما تم نقله بمحتواه كما هو من وكالة معا الإخبارية ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة على المصدر السابق ذكرة.






