اخبار اليمن | توازن الوعي وسط عواصف الدولة.. قراءة في تجربة أحمد عبيد بن دغر

كتب// د. محمد الحميدي

في بنية الدولة اليمنية ما قبل الحرب، كان الانقسام السياسي جزءاً من التركيبة لا خللاً طارئًا عليها، إذ تشكلت السلطة على توازن هش بين الولاءات المناطقية والاصطفافات الحزبية، وتعايشت مع فكرة الدولة بوصفها مجالاً تفاوضياً أكثر منها كيانًا قانونيًا راسخًا. ومع لحظة 21 سبتمبر 2014م، انهار هذا التوازن، لا لأنه كان متينًا فصدأ، ولكن لأنه كان هشاً فارتطم بتناقضه الداخلي. وجدت البلاد نفسها أمام فراغين مزدوجين، فراغ في الوظيفة المؤسسية للدولة، وفراغ في الحضور الوطني المتزن داخل معادلة الصراع.

في مثل هذه اللحظات، لا يُنتظر من القادة أن يجيدوا فن الخطابة أو إدارة المواقف، إنما أن يُعيدوا ترسيم حدود الدولة الممكنة. وعليه، فإن الحديث عن الدكتور أحمد عبيد بن دغر لا يُفهم في إطار الوظيفة التي شغلها، ولكن من زاوية الفعل البنيوي الذي مثله كأحد العقول القليلة القادرة على الاشتغال في منطقة التصدع دون أن تُبتلعها، وعلى التقاط الممكن السياسي دون أن تتنازل عن جوهر الدولة.

عند تعيينه رئيسًا للوزراء في واحدة من أحلك المراحل التي مرت بها اليمن، لم يكن الرجل مجرد خيار تسوية، إنما كان استعادة لفكرة أن الدولة تحتاج حين تتكاثر عليها الطعون، إلى عقل قادر على فهم تناقضاتها لا على إنكارها. لحظة بن دغر كانت استدعاءً لشخصية تستطيع أن تكون في قلب الشرعية، دون أن تصبح أداةً في يد صراع المصالح داخلها.

إذ كان لحضوره بمثابة إعادة تعريف ضمنية لمعنى “السلطة” في زمن الانهيار، فلم يعمل بوصفه على رأس مؤسسة تنفيذية فحسب، لقد كان مناضلاً وحارسًا لفكرة الدولة حين كانت عارية من أدواتها، التحدي لم يكن في إدارة الملفات، إنما في إدارة التناقضات، في الحفاظ على مسافة واحدة من المكونات دون الوقوع في حيادٍ بارد، وتقديم خطاب عقلاني يحافظ على جوهره السياسي والوطني، دون أن ينحدر إلى لغة إدارية محايدة تفتقر إلى البعد القيمي.

مثل لحظة استثنائية داخل السلطة، لا لأنه كان بعيدًا عن الخصومة، ولكن لأنه تعامل معها بوعي سياسي يحول دون أن تتحول إلى عداوة مع الدولة نفسها، لم يدفعه الخلاف إلى القطيعة، ولا سمح للتمايز أن ينزلق نحو صراع يلغي الآخر، وعند تخوم المواجهة، لم يكن مراقبًا محايدًا، بل صانعًا لمسار جديد يعيد تشكيل الاصطفاف حول المشروع الوطني، ويحرر النقاش من أسره الفئوي والشخصي، دون أن يُفرط بثوابت الدولة أو يُقايض على معناها الجامع.

ما يُميز تجربة الدكتور أحمد عبيد بن دغر، أنها لا تُبنى على اجتراح المواقف تحت ضغط اللحظة، ولا تُفسر ضمن مسلكية براغماتية تسعى للبقاء في دوائر الفعل. فالاتزان الذي وسم مسيرته لم يكن سلوكًا انفعاليًا أو مظهرًا سياسيًا يحاكي متطلبات التوازن، وإنما رؤية ناضجة لصياغة الممكن الوطني وسط زحام المتضادات.

الاتزان هنا، ليس موقفًا وسطياً بالمفهوم الكسول الذي يُخلي السياسة من حيويتها، ولكن هو اجتهاد واقعي لفهم هشاشة البنية السياسية اليمنية ومحاولة إعادة بناءها من الداخل، دون اللجوء إلى الهدم أو الاستعراض، فمن هذا الموقع، عمل بن دغر على مقاربة الدولة كإرادة اجتماعية لا كسلطة فوقية، واعتبر أن التوافق لا يصنعه الانسجام، إنما تنسجه القدرة على إدارة التنافر ضمن قواعد تحفظ شكل الدولة ومعناها في آنٍ واحد.

وحين تولى رئاسة مجلس الشورى، لم يُدر المؤسسة كمنبر رأي شرفي، لكنه تعامل معها كأداة رمزية واستشارية لإعادة الاعتبار لمفهوم التشريع السياسي الذي يُنتج موازين جديدة، ويحرك التوافق من خانة التجميد إلى خانة التفعيل. فقد استثمر الموقع في إعادة تشكيل موازين التأثير داخل منظومة الشرعية، من خلال إحياء قنوات التواصل مع مختلف المكونات، وتخفيف بؤر التوتر، وصياغة فهم جديد للدور الوطني الذي ينبغي أن تنهض به الهيئات الدستورية.

وتتجلى هذه الفلسفة كذلك في رئاسته للمجلس الأعلى للتكتل الوطني للأحزاب السياسية، حيث اختبر حدود الفكرة الحزبية في بيئة ما بعد الانقسام، فعمل على تجاوز الإطار الأداتي للتكتل، إلى إعادة إنتاج تصور مشترك يقوم على احتواء المصالح المتعددة داخل أفق وطني منسجم، هنا لم تكن القيادة مجرد تنسيق، لكنها ممارسة لاستيعاب الصراع دون السقوط في مطب التسويات الهشة أو الشعارات الفضفاضة.

تُقدم تجربة بن دغر في هذا السياق درسًا بليغًا في أن الاتزان لا يعني التردد، إنما القدرة على توجيه التناقض، وضبط إيقاعه، دون أن يتآكل من الداخل أو يُستلب خارجيًا، وهو بذلك أقرب ما يكون إلى السياسي الفيلسوف، لا من حيث التنظير، ولكن من حيث ممارسته اليومية لفكرة أن البناء يبدأ من ضبط الانفعالات قبل رسم السياسات.

في بلد تتنازع فيه الولاءات المناطقية، وتتشظى فيه السلطة بين من يحتكر السلاح ومن يملك الاعتراف، تبدو الحاجة ماسة إلى شخصيات لا تُضيف إلى الضجيج صوتًا، إنما تفتح مساحات للمعنى السياسي وسط الانهيار المفاهيمي، فأصبح لا يشبه الآخرين ولا يقدّم نفسه كرجل إنقاذ فردي، ولا يسلك طريق المشاريع الشعبوية السريعة، لكنه يجسد ما هو أبقى أثرًا، خبرة مؤسسية راكمها لعقود، وعقلًا سياسيًا يبصر ما وراء الانقسام، ويقرأ اللحظة بأدوات الدولة لا بانفعالات الصراع

فالسياسة، في نسختها اليمنية الراهنة، لم تعُد بحاجة إلى شعارات الهوية أو خطابات المواجهة، بقدر حاجتها إلى رجل يُدرك أن الوطن لا يُستعاد بخريطة، إنما بوعي متدرج يُراكم التوافق ويحمي ما تبقى من المعنى الجمهوري.

ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة عدن الغد , ولا يعبر عن وجهة نظر حضرموت نت وانما تم نقله بمحتواه كما هو من عدن الغد ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة على المصدر السابق ذكرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى